إذا كان لنا ثمة حظ في أكتوبر، فإن ثورة أكتوبر لم
يكن لها نفس ذلك الحظ فيما نكتبه من أدبيات، فنحن لا نملك مؤلفا واحدا
يكون لوحة شاملة لثورة أكتوبر تبرز فيها الظروف الحاسمة في الميدان
السياسي والتنظيمي. وأكثر من ذلك، فإن الوثائق التي تتميز بمختلف نواحي
التحضير للثورة أو للثورة نفسها لم تنشر بعد، فنحن نصدر وثائق ومواد عن
تاريخ الثورة والحزب قبل أكتوبر وبعده، إلاّ أننا نكرس عناية أقل بكثير
لأكتوبر نفسه. ويتراءى لنا أننا ما دمنا قد قمنا بتوجيه الضربة القاصمة
للخصم، ولم نعد في حاجة إلى إعادتها، فإن دراسة أكتوبر نفسه وشروط
التحضير المباشر له لا نرى فيها فائدة مباشرة في ما يمكن أن نقوم به من
مهام عاجلة للتنظيمات المقبلة.
ومع ذلك فإن مثل هذا الاعتقاد، ولو كان صادرا جزئيا
عن غير وعي منا، فإنه، في جوهره، خطأ فادح، بالإضافة إلى كونه وجها من
وجوه الانكماش القومي. وإذا كنا نحن لسنا في حاجة إلى إعادة أكتوبر فلا
يعني ذلك أن تلك التجربة سوف تكف عن أن تعلمنا شيئا. خاصة إذا تذكرنا
بأننا جزء من الأممية، وأن البروليتاريا في البلدان الأخرى لم تحل بعد
مشكلة أكتوبر ها. ومجرى السنوات الأخيرة أعطتنا أدلة مقنعة على أن
الأحزاب الشيوعية الأكثر تقدما في الغرب لم تهضم تجربتنا فحسب، وإنما
أيضا لم تعرفها كما حصلت في الواقع.
على أن المرء يمكن أن يلاحظ بأن دراسة أكتوبر أو
حتى نشر المواد المتعلقة به، ربما لا تكون ممكنة - وهذا حقيقي - دون أن
توضع على بساط البحث، مرة أخرى، اختلافات وجهات النظر القديمة. إلاّ أن
طرح المسألة على هذا النحو يدل على قصر في النظر. إذ أن اختلافات سنة
1917 كانت عميقة جدا، وبعيدة عن أن تكون مجيئها بمحض الصدفة. إلاّ أنه
من السخافة محاولة استعمال تلك الاختلافات سلاحا ضد أولئك الذين وقعوا
في الخطأ. ولكن من غير المقبول أيضا أن يتم السكوت - مراعاة لأمور
شخصية - عن المشاكل الرئيسية لثورة أكتوبر، ذات الأهمية الأممية.
لقد واجهنا في السنة الماضية هزيمتين ثقيلتي الوطأة
في بلغاريا. أولا: لأسباب عقائدية ذات صبغة قدرية أهمل الحزب الشيوعي
فرصة نادرة ومؤاتية للقيام بحركة ثورية (انتفاضة الفلاحين بعد انقلاب
سان كوف في يونيو- يوليو).. ثم ثانيا: عندما حاول إصلاح خطئه واندفع في
عصيان سبتمبر دون أن يكون قد أعد المقدمات السياسية التنظيمية،
الضرورية لإنجاح ذلك العصيان. وكان يجب أن تكون الثورة البلغارية مقدمة
للثورة الألمانية ولكن لسوء الطالع كان لهذه المقدمة المحزنة امتداد
مفجع في ألمانيا نفسها. ففي النصف الثاني من العام الماضي رأينا في هذا
البلد ظاهرة كلاسيكية تتكرر، حيث ترك وضع ثوري ذو أهمية تاريخية ودولية
يمر دون حراك. والتجربتان البلغارية والألمانية لم تحظيا بدراسة كاملة
وعينية بشكل كاف. وإذا كان مؤلف هذه الأسطر قد أعطى خطوطا عريضة لتطور
الأحداث الألمانية في العام الماضي (أنظر كراس "الشرق والغرب" الفصل أ:
المنعطف والمرحلة التي نمر بها)، وكل ما جاء من التطورات أتى منسجما
تماما مع تلك الخطوط. وإذ لم يقم أحد بمحاولة إعطاء تفسير آخر فإن
خطوطا عريضة لا تكفي وحدها، وإنما تلزمنا لوحة كاملة تـنير أسباب تلك
الهزيمة الشديدة الوطأة، تكون مرفقة بسجل واف للوقائع التي استندت
عليها.
إلاّ أنه من الصعب التفكير في تحليل للأحداث التي
جرت في بلغاريا وألمانيا ونحن لم نعط بعد لوحة لسياسة ثورة أكتوبر
وتكتيكها، فنحن لا نعرف بعد بالضبط ما الذي عملنا وكيف عملناه. ويبدو
أن الأحداث في أوروبا بعد أكتوبر قد تطورت بسرعة لم تترك لنا الوقت
الكافي الذي يمكننا من استيعاب دروس أكتوبر من الوجهة النظرية. ولكن
الذي ظهر للعيان أنه بغياب حزب كفء للقيادة يكون من المستحيل إنجاح
انتفاضة البروليتاريا الهادفة للاستيلاء على السلطة. فالبروليتاريا لا
تستطيع الاستيلاء على السلطة بواسطة مجرد عصيان عفوي ولو كان ذلك في
بلد متقدم جدا صناعيا، وذي مستوى ثقافي مرتفع كألمانيا، فالعصيان
العفوي الذي قام به العمال في هذا البلد (نوفمبر 1918) لم تكن له من
نتيجة سوى وضع السلطة بين يدي البرجوازية، ذلك أن طبقة حائزة للثورة،
قادرة دوما على أن تستولي على السلطة المنزوعة من أيدي طبقة مالكة أخرى
بالاستناد إلى ثروتها و"ثقافـتها" وعلاقاتها التي لا تحصى بجهاز الدولة
القديم. أما بالنسبة للبروليتاريا فلا شيء يغنيها عن الحزب. وإذا كانت
الأحزاب الشيوعية لم تبدأ عهد تنظيمها الحقيقي إلاّ منذ 1921 ("النضال
لكسب الجماهير"، "الجبهة المتحدة"، الخ..) وبالتالي كانت مهمات أكتوبر
لا تزال بعيدة، في نفس الوقت الذي وضعت فيه دراسة تجربة أكتوبر في آخر
بند لجدول الأعمال، حتى إذا جاءت السنة الأخيرة وضعتنا وجها لوجه أمام
مهمات الثورة البروليتارية. وهكذا حان الوقت لجمع الوثائق ونشر كل
المواد والشروع في العمل الدراسي.
نحن نعرف، وهذا أمر واضح، أن كل شعب، وكل طبقة وكل
حزب يتعلم بصورة رئيسية من تجربته الخاصة. ولكن هذا لا يعني أن تجربة
الشعوب والطبقات والأحزاب الأخرى ذات أهمية ضئيلة. فبدون دراستنا
للثورة الفرنسية، وثورة 1848، وكومونة باريس، ما كان ليمكن لنا تحقيق
ثورة أكتوبر، حتى لو اكتفينا بتجربة ثورة 1905، وذلك لأن ثورة 1905
خضناها بالاستناد إلى تعاليم الثورات السابقة والسير في خطها التاريخي.
وطوال عهد الثورة المضادة سد الفراغ ببحث دروس ثورة 1905. أما ثورة
أكتوبر المظفرة فلم يعط لها من الدرس ما يوازي عشر ما أعطي لثورة 1905
رغم أننا لا نعيش في عهد رجعي ولا في المهجر، بل على العكس من ذلك نحن
نملك الآن من القدرة ومن الوسائل بما لا يمكن أن يقاس بما كان لدينا في
تلك السنوات المرهقة. يجب أن توضع اليوم دراسة أكتوبر على رأس جدول
أعمال حزبنا وأعمال الأممية في آن واحد.
يجب على حزبنا كله، وخاصة الشباب فيه، دراسة تجربة
أكتوبر دراسة دقيقة لأن هذه التجربة مكنتنا من التحقيق من ماضينا،
وفتحت لنا بابا واسعا على المستقبل، وأن درس ألمانيا ليس فقط نداء جديا
يدعونا، وإنما هو إنذار لا يقدر.
ويمكن أن يقال - وهذا صحيح- أن المعرفة العميقة
بتطور ثورة أكتوبر لا يشكل ضمانا لانتصار حزبنا في ألمانيا. إلاّ أن
هذا التفكير لا يقود إلى شيء. بالتأكيد، دراسة ثورة أكتوبر وحدها لا
تكفي لتجعلنا ننتصر في بلدان أخرى، إذ يمكن أن توجد أوضاع تتوفر فيها
كل مقومات الثورة عدا قيادة حزبية تملك الوضوح والحسم وتستند إلى فهم
قوانين وأساليب الثورة، كما وقع بالضبط بألمانيا في السنة الماضية. وهو
ما يمكن تكرار حدوثه في بلدان أخرى. ومع ذلك فإن دراسة قوانين وأساليب
الثورة البروليتارية ليس لها حتى الآن مصدر أهم من تجربة أكتوبر. فقادة
الأحزاب الشيوعية الأوروبية الذين لا يدرسون دراسة نقدية تفاصيل تاريخ
انقلاب أكتوبر يكونون كمثل ذلك القائد العسكري الذي يعد لحروب جديدة
دون دراسة التجربة الاستراتيجية والتكتيكية والفنية للحرب الإمبريالية
الأخيرة. وقائد من هذا الطراز لا بد أن يؤدي بجيوشه إلى الهزيمة.
وإذا سلمنا بأن الحزب هو الأداة الرئيسية للثورة
البروليتارية، فإن تجربتنا خلال عام (فبراير 1917- فبراير 1918)
بالإضافة إلى التجارب المكملة الأخرى في فنلندا وهنغاريا وإيطاليا
وبلغاريا وألمانيا، تسمح لنا بأن نعتبر كقانون استحالة تجنب الحزب أزمة
داخلية عندما يأخذ في الانتقال من عملية الإعداد الثورية إلى النضال
المباشر من أجل السلطة. فالأزمات في الحزب تظهر بصورة عامة كلما مر في
منعطف هام كمقدمة أو كنتيجة لهذا المنعطف. وسبب ذلك أن كل فترة من
فترات نمو الحزب لها سماتها المميزة، وتتطلب عادات وأساليب معينة
للعمل. فمنعطف تكتيكي مثلا يستلزم بترا هاما إلى حد ما حسب كل حالة
لتلك العادات والأساليب. وهنا يكمن منبع تلك الصعوبات والأزمات. وقد
كتب لينين في يوليو 1917 قائلا: "يحدث غالبا خلال منعطف مفاجئ من تاريخ
الأحزاب المتقدمة نفسها أن تعجز خلال فترة قصيرة أو طويلة حسب الحالات
عن التكيف مع الوضعية الجديدة وتبقى تردد الشعارات التي كانت بالأمس
صحيحة، إلاّ أنها اليوم فقدت فجأة كل معنى لها. وهذا راجع إلى أن ذلك
التحول التاريخي حصل فجأة أيضا". وهنا يكمن الخطر، فإذا كان التحول قد
حدث بصورة مفاجئة أو كان غير متوقع البتة وإذا كانت الفترة السابقة قد
جمعت كثيرا من العناصر الكابحة والمحافظة في المستويات العليا لقيادة
الحزب، فإن هذا الأخير يـبدو عاجزا عن القيادة في أخطر الأوقات التي
أعد نفسه لها طيلة سنوات إن لم يكن طيلة عشرات السنين. وهكذا إذ يكون
الحزب وقد طحنته الأزمة، ترك الحركة تسير دون هدف وتؤول إلى الهزيمة.
إن الحزب الثوري يكون دائما موضوعا تحت ضغط القوى
السياسية الأخرى في كل فترة من فترات نموه، يخلق الوسائل التي تمكنه من
مقاومة تلك الضغوط ودحرها. أما في المنعطفات التكتيكية التي تجلب معها
التطاحن وإعادة تشكيل كتله الداخلية فإن قوة مقاومته تضعف، ومن هنا
تكون الإمكانية الدائمة لتطور تلك الكتل الداخلية التي ولدها المنعطف،
تطورا ملحوظا، قد أصبحت قاعدة لمختلف الاتجاهات الطبقية. وبكل بساطة،
نقول إن الحزب الذي لا يستطيع مواكبة المهمات التاريخية لطبقته يصبح أو
يكاد يصبح، أداة غير مباشرة للطبقات الأخرى.
وإذا كانت الملاحظة السابقة صادقة بالنسبة للمنعطف
التكتيكي، فإنها أكثر صحة بالنسبة للمنعطف الاستراتيجي. ونحن نقصد هنا
بالتكتيك المعنى الذي للكلمة في العلم العسكري وهو فن قيادة العمليات
المنفردة، كما نقصد باستراتيجيـته: فن تحقيق النصر أي الوصول إلى
السلطة. وقبل الحرب العالمية وأثناء فترة الأممية الثانية لم نكن عادة
نقوم بهذه التفرقة بين الاستراتيجية والتكتيك، إذ كنا نكتفي بالمعنى
الذي حددته الاشتراكية-الديموقراطية لكلمة التكتيك. ولم يكن ذلك آت
بمحض الصدفة، فقد كان للاشتراكية الديموقراطية تكتيك برلماني، ونقابي،
وبلدي وتعاوني الخ.. إلاّ أن مسألة جمع وتنسيق كل القوى والموارد
وجعلها سلاحا لتحقيق النصر والغلبة على العدو لم تكن مطروحة على عهد
الأممية الثانية، التي لم تحدد لنفسها عمليا مهمة النضال من أجل
السلطة، ولم تطرح المسائل الأساسية والاستراتيجية لنضال البروليتاريا،
إلاّ بعد ردح قليل من الزمن، بمجيء ثورة 1905 التي قدمت فوائد جمة
للاشتراكيين الديموقراطيين الثوريين الروس: أي البلاشفة، ولكن أعظم عهد
لاستراتيجيته بدأ سنة 1917 أولا لروسيا ثم لأوروبا كلها بعد ذلك.
وبالطبع فإن الاستراتيجية لا تمنع التكتيك كمسائل الحركة النقابية
والنشاط البرلماني الخ الخ.. إذ أن هذه الأشياء لم تغب عن أنظارنا
ولكنها تأخذ الآن اهتماما مختلفا باعتبارها أساليب تابعة للنضال المنظم
من أجل السلطة، وبهذا يمكن لنا أن نقول: إن التكتيك تابع للاستراتيجية.
وإذا كانت المنعطفات التكتيكية تولد عادة التطاحن
داخل الحزب، كما سبق أن ذكرنا، فإن المنعطفات الاستراتيجية - وهو ما له
مبررات أكثر- تثير حتما، اضطرابات أكثر حدة. فالمنعطف الأكثر مفاجأة هو
ذلك الذي تنتقل فيه البروليتاريا من طور الاستعداد والدعاية والتنظيم
والتحريض والنضال المباشر من أجل استلام السلطة، إلى طور الانتفاضة
المسلحة ضد البرجوازية. ذلك أن كل ما في الحزب من مائع ومثبط ومعوق
وانهزامي، يقف ضد الإنتفاضة ويـبحث عن صيغ نظرية يدعم بها نظريته
ويجدها جاهزة لدى خصومه في الأمس: الانهزاميين. ويمكننا مشاهدة هذه
الظاهرة مرات عديدة.
فبعد أن قام الحزب خلال فترة فبراير-أكتوبر بعمل
واسع في مجال التحريض والتنظيم بين الجماهير، لم يبق أمامه سوى المرور
بآخر امتحان وبآخر اختبار لسلاحه قبل الدخول في المعركة الفاصلة. وبعد
أن جاء أكتوبر وما يليه ووضع هذا السلاح على المحك في عملية واسعة
النطاق، بعد هذا كله نجد من يشتغل بتقييم بوجه خاص، ويمر في صمت بتجربة
أكتوبر. أوليس هذا العمل "أسكولائية" (منهاج العصور الوسطى) عقيمة
بعيدا عن أن يكون تحليلا ماركسيا للسياسة ؟ إن عملا من هذا النوع ليس له
من مثيل سوى ذلك الجدل الذي قامت به جماعة حول أجدى طرق السباحة،
ولكنها كانت ترفض بعناد النظر إلى النهر حيث يجري تطبيق تلك الطرق على
أي من السباحين.
ليس هناك محك أفضل للنظريات التي تعالج الثورة من
الثورة نفسها، تماما كما أننا نعرف أفضل طريقة للسباحة عندما يلقي
السباح نفسه في الماء. |